مع حديث " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة... " ، الأحد 07 /08 /2005 لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل و الوهم إلى أنوار المعرفة و العلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، لازلنا في إتحاف المسلم بما في الترغيب والترهيب من صحيح البخاري ومسلم ، والحديث اليوم رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، شَيْخٌ زَانٍ ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ )) .
[مسلم]
أيها الإخوة الكرام ، هذا الحديث منطلق لموضوع دقيق في الأخلاق ، أن كل إنسان بحاجة إلى خُلق معين ، كيف ؟ الورع حسن ، الورع قيمة راقية جداً ، لكن في العلماء أحسن ، أي ألزَمُ صفة للعالم أن يكون ورعاً ، لأنك يمكن أن تنتفع من مهندس أو طبيب ، أو عالم ذرة أو عالم فلك أو عالم رياضي ، تنتفع به ، ولا تلقي بالاً إلى سلوكه و انضباطه ، تريد علمه فقط ، لكن لا يستطيع إنسان على وجه الأرض أن ينتفع بعالم الدين إلا إذا كان مطبقاً لما يقول ، لذلك يقول الإمام علي كرم الله وجهه : " قوام الدين والدنيا أربعة رجال ، عالم مستعمل علمه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه " ، كم شخصًا ؟ عامل مستعمل علمه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه .
الآن هناك حركة ، فإذا ضيع العالم علمه ، أي لم يستعمل علمه ، لم يكن ورعاً ، استنكف الجاهل أن يتعلم ، ما الذي يزهد الناس في التدين ؟ أن يروا إنساناً متديناً ، وليس مستقيماً ، متديناً ، أي يصلي ، و يؤدي العبادات ، أما بالتعامل فليس مستقيماً ، مثل هذا الإنسان أنا أسميه منفراً ، " قوام الدين والدنيا أربعة رجال ، عالم مستعمل علمه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم ، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره " .
وهذا الذي يحصل ، إذا بخل الغني بماله أنفق المال على ملذاته ، وعلى أساليب حياته التي لا تعقل ، يأتي الفقير فيعتنق الإلحاد من أجل أن يأكل ويشرب ، يبيع الفقير آخرته بدنيا غيره ، يتعاون مع الظالم ، لأن المال قوام الحياة ، إذا بخل الغني المسلم .
صدقوا أيها الإخوة الكرام ، حقيقة مرة ، أن باحثة اجتماعية زارت السجون ، والتقت بالذات بالمنحرفات ، واللواتي حكم عليهن بالسجن ، المفاجأة الخطيرة جداً أن الفتيات المنحرفات لسن فاسدات ، لكنهن فقيرات ، لذلك أغنياء كل البلدة سيحاسبون أمام الله حساباً عسيراً ، لأنهم بخلوا بمالهم ، فاضطر الفقير أن يبيع آخرته بدنيا غيره ، واضطرت الفتاة أن ترتزق بثدييها ، لذلك الورع حسن ، لكن في العلماء أحسن ، والحياء حسن ، الحياء من أروع الصفات ، لكن في النساء أحسن ، لأن من علامات آخر الزمان أن ينزع الحياء من وجوه النساء ، وأن تذهب النخوة من رؤوس الرجال .
الفتاة لا تستحي ، تبدي كل ما عندها من زينة ، ولا تستحي ، ولا تخجل ، والفتاة قد تحد النظر في الرجل ، وقد تقسو في الكلمات ، وقد ترفع صوتها ، ينزع الحياء من وجوه النساء ، وتذهب النخوة من رؤوس الرجال .
يمشي مع زوجته بثياب فاضحة ، كل خطوط جسمها واضحة ، ولا يستحي ، أو يمشي مع ابنته ، أو يسمح لزوجته أن تقف في الشرفة بثياب فاضحة ، من هو الديوث ؟ الذي لا يغار على عرضه ، أو يرضى الفاحشة في أهله .
لعل قبول الفاحشة نسبتها قليلة جداً بين الرجال ، أما الذي لا يغار على عرضه فالنسبة كبيرة جداً ، والديوث لا يريح رائحة الجنة .
إذاً لذلك الورع حسن ، لكن في العلماء أحسن ، الحياء حسن ، لكن في النساء أحسن ، التوبة حسنة ، لكن في الشباب أحسن ، ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب ، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب التائب ، يقول : انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي .
أيها الإخوة الكرام ، جميل جداً أن ترتاد بيوت الله ، لكن جميل جداً جداً أن تكون شاباً ترتاد بيوت الله .
كنت مرة في مدينة إسلامية ، في بلد إسلامي ، صليت المغرب في مسجد ، المفاجأة أن كل المصلين فوق الثمانين ، عندنا في الشام ظاهرة رائعة جداً ، أن رواد المساجد من الشباب ، يعج المسجد بالشباب ، وريح الجنة في الشباب ، والتوبة حسنة ، لكن في الشباب أحسن .
شاب تائب ، إذا كان من إنسان يُغبَط فهو شاب نشأ في طاعة الله ، طبعاً إذا كان الإنسان متقدمًا في السن يرتاد بيت الله شيء جميل ، بارك الله به ، و كثّر من أمثاله ، لكن الإنسان بعد مضي سبعين ثمانين سنة أمضاها في الجهل ، وفي التفلت ، الآن ليس أمامه إلا القبر ، فاضطر أن يأتي إلى المسجد ، فرق كبير بين أن يأتي للمسجد ، وهو شاب في ريعان الشباب ، و بين من يأتي إلى المسجد ، و قد ذهبت عنه كل شهواته وغرائزه ، ولم يبق أمامه إلا القبر ، فاضطر أن يأتي إلى المسجد .
فالبطولة بالشاب ، بالمناسبة إخواننا الكرام ، عندما الشاب يأتي إلى بيت الله مبكراً ، ويشكل حياته تشكيلاً إسلامياً ، يرتاح طوال حياته ، اختار زوجة مؤمنة صالحة ، اختار حرفة إسلامية صحيحة أو مشروعة ، لا يوجد عنده مشكلة مع نفسه ، لو أن إنسانًا تعرف إلى الله متأخراً يكون قد أهمل أهله ، واختار حرفة لا ترضي الله ، واختار زوجة لم تقنع بما قنع ، هو في أواخر حياته .
إذاً الورع حسن ، لكن في العلماء أحسن ، الحياء حسن ، لكن في النساء أحسن ، التوبة حسنة ، لكن في الشباب أحسن ، العدل حسن ، لكن في الأمراء أحسن .
وهذا يقودنا أيها الإخوة الكرام إلى موضوع دقيق ، أن هناك عبادة الهوية ، أنت من ؟ أنت قوي ، العبادة الأولى إحقاق الحق ، أنت غني ، العبادة الأولى إنفاق المال ، أنت عالم ، العبادة الأولى إلقاء العلم ، هذه عبادة الهوية ، أي لا يقبل من الإنسان الغني جداً يذكر الله باليوم خمسة آلاف مرة ، ولا يؤدي حق المال ، إنسان له مع إنسان مليون ليرة ، وبالغ في المماطلة ، وفي الكذب ، وفي التأجيل ، وفي التسويف ، الذي وضع معه هذا المبلغ فقير ، فاضطر أن يتصل به مرة يوم الجمعة ليطالبه بالمبلغ الذي له عنده ، فقال له بطريقة لا تحتمل : كيف تتصل بي في يوم الجمعة ، وهو يوم خلوتي مع الله ؟ أنا كان تعليقي ، سامحوني قلت له : قل له : تضرب أنت والخلوة التي لك ، اذهب ، وأدِّ المليون ليرة أولاً ، بعد ذلك نسمي لك خلوة مع الله ، ما هذه الزعبرة ؟ قال له : كيف تتصل بي في يوم الجمعة ، وهو يوم خلوتي مع الله ؟ وأنت آكل عليه مليون ليرة ، وهو في أمسّ الحاجة لها .
فلذلك عبادة الهوية إن كنت غنياً إنفاق المال ، لذلك مطل الغني يحل عرضه ، لك أن تتكلم عنه ، ولا شيء عليه ، معه ولا يعطيك .
الآن ، و الصبر حسن ، لكن في الفقراء أحسن ، لا يوجد أجمل من فقير متجمل ، فقير صابر ، لا يتضعضع أمام غني ، متجمل ، تحسبه غنياً من التعفف :
[ سورة البقرة : الآية 273]
لذلك كان السلف الصالح يبحثون هم عن الفقير ، وأقول لكم كلاماً دقيقاً جداً : لأن الله عز وجل في القرآن الكريم بيّن أن هذه الصدقات لمن تحسبه غنياً من التعفف :
[ سورة البقرة : الآية 273]
هو لن يسألك ، و لن يتضعضع أمامك ، و لن يطلب منك ، إذاً عليك أن تبحث أنت عنه ، صار هناك واجب حتمي استنباطي من قوله تعالى :
[ سورة البقرة : الآية 273]
إذاً ينبغي أن تبحث أنت عنه .
وهناك معنى آخر :
[ سورة الذاريات : الآية 19]
من هو السائل ؟ الذي يقتحم عليك ، من هو المحروم ؟ الذي يستحي أن يسألك .
لذلك ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس ، فإن الأمور تجري بالمقادير ، ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته ، فتكيده أهل السماوات والأرض ، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً ، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني ، أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه ، و قطعت أسباب السماء بين يديه .
اجعل لربك كل عزك يستـقر و يثبـــت
فإذا اعتززت بـمن يموت فإن عزك ميت
من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ، كن متماسكاً الله الغني ، الله لا ينسى أحداً من فضله .
و الله مرة زارني إنسان ، ضيفته قطعة حلوى ، أمسك القطعة ، وأكل أول قطعة منها ، و قال : سبحان من رزقنا هذا ، ولا ينسى من فضله أحداً !!
إذا أنت تجملت ، و لم تلح ، و لم تسأل ، و لم تقتحم على الناس ، و لم يكن ظلك ثقيلاً عليهم ، هل الله ينساك ؟ ولا ينسى من فضله أحدا .
لا ينساك ، لك عنده رزق ، اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس ، فإن الأمور تجري بالمقادير ، والصبر حسن ، لكن في الفقراء أحسن .
أيها الإخوة الكرام ، ورد في بعض الكتب ، ليس حديثاً ، أنا أسميه من الأثر ، أن أحب ثلاثاً ، و حبي لثلاث أشد ، أحب الطائعين ، و حبي للشاب الطائع أشد ، شاب في مقتبل الحياة كالمرجل طاقة ، و حيوية ، و غرائز ، و شهوات ، و آمالا ، كل هذه الطاقة ، و كل تلك الشهوات ضبطها وفق منهج الله ، أنا في الحج رأيت رجلاً أيقنت أنه من أوربا من هيئته و لونه ، فإذا هو من ألمانيا الغربية ، يمشي مع من أعرفه ، سألته عنه ، قال لي : هذا إنسان ألماني غربي سكن عنده طالب سوري ، وعنده فتاة جميلة ، اشتهى هذا الأب أن يلمح هذا الطالب مرة واحدة ينظر إلى ابنته ، دهش ، فحاوره وأقنعه بالإسلام فأسلم ، هذا الطالب ما تكلم و لا كلمة ، إلا أنه غض بصره عن محارم الله ، أكبر عالم رياضيات ملحد بسان فرانسيسكو كان يقول له أستاذه في الجامعة : اخرج من القاعة ، ولك علامة تامة ، لأنه كان يربك أستاذه من شدة تفوقه ، ويوم كان طالباً في التعليم الثانوي انتقد أستاذ الديانة في أمريكا طبعاً فطرده أبوه من البيت فاعتنق الإلحاد ، وصار علماً من أعلام الإلحاد هناك ، فكان أستاذه الذي علمه يستعين به في بعض القضايا في الرياضيات عنده طالبة من الشرق الأوسط محجبة حجاباً كاملاً ، و الوقت صيف ، و الفتيات في أمريكا شبه عرايا ، فأرسلها إلى هذا الأستاذ الملحد كي يجيبها عن بعض الأسئلة ، هذا الملحد نظر إليها ظاهرة غريبة ، الفتيات عرايا في الصيف ، ما بال هذه الفتاة محجبة حجاباً كاملاً ، و الحجاب عبء على الفتاة ، و لا سيما في الصيف ؟ لكن عبادتها تلك أنا أسميها عبادة إحصان ، عبادة إعفاف الشباب ، كيف نحن عندنا عبادة اسمها الجهاد ؟ والجهاد ذروة سنام الإسلام ، الفتاة لها عبادة خاصة بها ، و لو أن فيها بعض العبء ، لكن هذه العبادة أقصر طريق إلى الجنة ، أنا أسميها عبادة إعفاف الشباب ، حينما تستر مفاتنها عن الشباب ، و تريحهم قليلاً تكون قد أدت أجمل ما خصها الله به من مفاتن .
فهذه الفتاة محجبة حجاباً كاملاً ، هو يحتقر الشرق الأوسط ، وجد فتاة شرق أوسطية في أيام الصيف محجبة حجاباً تاماً ، يقول في كتابه : و الله ما تجرأت أن أحدق في وجهها ، و رغبت أن أخدمها بكل حاجتها ، وشعرت أنها إنسانة قديسة ، و تتمتع بقناعات تنفرد بها .
ماذا فعل هذا الملحد ؟ عكف في اليوم نفسه على قراءة القرآن ، إلى أن وصل إلى قوله تعالى :
[ سورة يونس : الآية 92]
تتمة في الجزء 2